فصل: الشاهد الثامن والثمانون بعد الثمانمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الرابع والثمانون بعد الثمانمائة

فليت كفافاً كان خبرك كله *** وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي

على أنه يجوز أن يكون كفافاً اسم ليت، وجملة كان‏:‏ خبرها، واسمها الضمير المستتر فيها الراجع إلى كفاف، وخبرها خيرك بالنصب، فيكون اسم كان أيضاً نكرة كاسم ليت لكونه راجعاً إلى كفاف‏.‏

وهذا كما قدمه في باب النكرة والمعرفة، وفي باب كان‏:‏ أن الضمير العائد إلى نكرة نكرة‏.‏ وهذا مذهب بعض النحويين‏.‏ وعند الجمهور معرفة مطلقاً‏.‏

وقد تكلم على هذا البيت أبو علي في تذكرته، وتلميذه أبو طالب العبدي، وابن الشجري في مجلسين من أماليه، ولخص منها ابن هشام في المغني، وابن الحاجب في أماليه، وأبو حيان في تذكرته وغيرهم‏.‏

ولم يذكر أحد منهم رواية نصب خيرك إلا صاحب اللباب، قال فيما علقه عليه‏:‏ ذكر عبد القاهر في هذا البيت وجهاً آخر يخرجه عما نحن فيه من إضمار الشأن‏:‏ أن كفافاً اسم ليت، وفي كان ضميره، وخيرك منصوب بالخبرية‏.‏ وكذا شرك على معنى‏:‏ فليت شيئاً مكفوفاً كان هو خيرك كله وشرك‏.‏ انتهى‏.‏

وأفاد فائدتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن قوله‏:‏ وشرك منصوب في رواية نصب خيرك والثانية‏:‏ أن كفافاً مصدر مؤول باسم المفعول على تقدير موصوف‏.‏

وفي مسائل إلخ لاف لابن الأنباري ما يشير إلى رواية النصب أيضاً، ولكن المعنى عليها يكون على القلب، كما يشهد به الذوق السليم‏.‏ وعلى هذه الرواية يكون عني متعلقاً بمحذوف على أنه حال من شر، أي‏:‏ حال كونه منفصلاً عني‏.‏

ولا يجوز أن يتعلق بالضمير في كان العائد على كفاف، كما ذكروا أن الظرف يتعلق بالضمير في قوله‏:‏

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجم

ولا بكفاف المذكور أيضاً، لأن المبتدأ لا يعمل بعد مضي خبره، ويكون مرتوي فاعل ارتوى، والماء‏:‏ منصوب بنزع إلخ افض، وما‏:‏ مصدرية ظرفية، أي‏:‏ مدة دوام المرتوي بالماء‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ وإن روي برفعه، أي‏:‏ برفع خيرك، فاسم ليت ضمير شأن محذوف‏.‏ وهذا على ما تقدم منه قريباً من أن أسماء هذه الحروف لا يجوز حذفها في الشعر إلا إذا كانت ضمائر الشأن‏.‏ وهو مذهب صاحب اللباب، قال‏:‏ ولا يحذف اسمها إلا إذا كان ضمير الشأن‏.‏ وكذا قال ابن الحاجب في أماليه على هذا البيت‏.‏

وجوز غيرهم أن يكون المحذوف ضمير المخاطب‏.‏ قال ابن الشجري في المجلس الأول، وهو المجلس الثامن والعشرون وتبعه ابن هشام‏:‏ إن اسم ليت ضمير محذوف‏.‏ وحذف هذا النحو مما تجوزه الضرورة‏.‏

فإن شئت قدرته ضمير الشأن والحديث، وإن شئت قدرته ضمير المخاطب‏.‏ وكفافاً معناه كافاً، وهو خبر كان، وخيرك اسمها، والجملة خبر اسم ليت‏.‏

والتقدير على الأول فليته كان خيرك كفافاً، ولا يحتاج إلى الضمير الرابط، لأن الجملة نفسها، هي الشأن‏.‏ وعلى التقدير الثاني‏:‏ فليتك كان كفافاً خيرك، والعائد على اسم ليت الكاف من خيرك‏.‏ ومثله في حذف الضمير على التقديرين قول إلخ ر‏:‏

فليت دفعت الهم عني ساعةً *** فبتنا على ما خيلت ناعمي بال

أراد‏:‏ فليته وفليتك‏.‏ انتهى‏.‏

وظاهر كلام هؤلاء أنه لا يجوز جعل كفافاً اسم ليت مع رواية الرفع‏.‏ وهو مسلم إن كانت كان تامة‏.‏

قال ابن الشجري، وتبعه ابن هشام‏:‏ فإن قلت‏:‏ هل يجوز أن ينصب بليت، وتجعل كان مستغنية بمرفوعها بمعنى حدث ووقع، ويخبر بالجملة التي هي كان وفاعلها عن كفاف‏.‏

فالجواب‏:‏ أن ذلك لا يصح لخلو الجملة عن عائد‏.‏ فلو قلت‏:‏ ليت زيداً قام عمرو لم يجز، لعدم ضمير في اللفظ، وفي التقدير‏.‏

فإن قلت‏:‏ إليه ومعه ونحو ذلك، صح الكلام‏.‏ انتهى‏.‏

وأما إن كانت ناقصة فجائز‏.‏ قال أبو حيان في تذكرته‏:‏ يصح جعل كفافاً اسم ليت، وخيرك اسم كان، وتضمر إلخ بر عائداً على كفافاً، والتقدير‏:‏ كأنه خيرك‏.‏ ونظيره أحد قولي سيبويه في‏:‏ إن أفضلهم كان زيد‏.‏

ومنع الفارسي من هذا في التذكرة، وقال‏:‏ لقبح الابتداء بالنكرة، ولأنه ليس بعده في الجملة ذكر يعود عليه، ولا هو هي‏.‏ ويا لها من غفلة من إمام حبر‏.‏ وإضمار خبر كان لا يحصى، وحذفه كحذف سائر الضمائر إذا كان في حكم الموجود، مثل إن زيداً ضرب عمرو؛ وإن كان ضعيفاً‏.‏ فأما نصب هذه الحروف المنكرات فلا ينحصر‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تبع ابن الحاجب أبا علي، فقال في أماليه‏:‏ ولا يستقيم أن يكون كفافاً اسماً لليت، لأنه نكرة‏:‏ فلا يصلح، ولو صلح لم يستقم المعنى، لأن قوله‏:‏ كان خيرك وما بعده لا يصلح خبراً‏.‏ انتهى‏.‏

وقول الشارح‏:‏ وقوله خيرك وشرك اسم كان وكفافاً خبرها، ولم يثن لكونه مصدراً في الأصل‏.‏ مثله لابن الحاجب في أماليه، قال‏:‏ كفافاً خبر عن إلخ ير والشر معاً، أي‏:‏ ليت خيرك وشرك بالنسبة إلي لا يفضل أحدهما عن إلخ ر؛ لأن الكفاف هو الذي ليس فيه فضل‏.‏

يريد‏:‏ إن شرك زائد على خيرك، فأنا أتمنى لو كان غير زائد‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه رد على ابن الشجري، في زعمه أن كفافاً إنما هو خبر خيرك، وخبر شرك محذوف مدلول عليه بالمذكور‏.‏

وقال في المجلس الثاني، وهو المجلس السادس والثلاثون‏:‏ ومن روى‏:‏ وشرك رفعه بالعطف على خيرك، فدخل في حيز كان، فغير أبي علي يقدر خبر كان المضمر محذوفاً دل عليه خبر كان المظهر، ويقدر المحذوف بلفظ المذكور، وهو القياس‏.‏ ونظير ذلك قوله‏:‏

نحن بما عندنا وأنت بم *** عندك راض والرأي مختلف

أراد‏:‏ نحن بما عندنا راضون‏.‏ انتهى‏.‏

وتبعه ابن هشام في المغني‏.‏

وتنبه الدماميني من كلام الشارح فقال معترضاً عليه‏:‏ لا حاجة إلى هذا التقدير؛ فإن كفافاً يصح كونه خبراً عنهما، إذ هو صالح للإخبار عن الاثنين وغيرهما‏.‏

وقول الشارح‏:‏ وعني متعلق بكفافاً، لأنه خبر كان، فهو متأخر في التقدير إلى جنبه، والمعنى عليه‏.‏

وقوله‏:‏ والماء على هذا الوجه منصوب على وجه أن يكون كفافاً خبراً عنهما‏.‏ أي‏:‏ ويكون مرتوي فاعل ارتوى، وهو مطاوع أرويته، ورويته من الماء فارتوى منه وتروى‏.‏

يقال‏:‏ روي من الماء بكسر الواو، إذا شبع منه، يروى بفتحها، رياً؛ والاسم الري بالكسر، فهو ريان، والمرأة ريا، كغضبان وغضبى‏.‏ ويعدى بالهمزة والتضعيف كما تقدم‏.‏ كذا في المصباح‏.‏

وقال ابن الشجري‏:‏ ارتوى بمعنى روي، جاء افتعل بمعنى فعل، كقولهم‏:‏ رقي وارتقى‏.‏ ومثله من الصحيح خطف واختطف‏.‏ انتهى‏.‏

ونصب الماء بنزع إلخ افض‏.‏ قال ابن الشجري‏:‏ يقال‏:‏ ارتويت منه وبه‏.‏

وإليه أشار الشارح بقوله‏:‏ أي‏:‏ ما ارتوى من الماء مرتو‏.‏ والمراد من هذا التأبيد، كقوله تعالى‏:‏ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، الآية‏.‏ قال ابن الشجري‏:‏ وأما نصب الماء فبتقدير حذف الجار، أي‏:‏ ما ارتوى من الماء وبالماء‏.‏ وحذف الجار، وإيصال الفعل إلى المجرور به مما كثر استعماله في القرآن والشعر‏.‏ فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلاً‏}‏، أراد من قومه‏.‏ ومن حذف الباء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه‏}‏، أي‏:‏ يخوفكم بأوليائه، فلذلك قال‏:‏ فلا تخافوهم ‏.‏

وقول الشارح‏:‏ وقيل شرك مرتو بتقدير مرتوياً إلى آخره‏.‏ هذا قول أبي علي في تذكرته، فيكون على قوله‏:‏ كفافاً خبراً لقوله‏:‏ خيرك فقط، على معنى أنه ما بلغ ذلك إلى أن يكون فيه كفاف، كما تقول‏:‏ ليت نفقتك كفافاً، أي‏:‏ ليتها مقدار الحاجة‏.‏

تريد أنها انقص، فكذلك هاهنا، ويكون العطف على الأول من عطف مفرد على مفرد شاركه في خبره‏.‏ وعلى قول أبي علي من عطف الجمل، أخبر عن كل مفرد منهما بخبر خاص‏.‏

قال ابن الشجري‏:‏ وأما قوله وشرك فمن رفعه فبالعطف على اسم كان، ومرتوي في رأي أبي علي خبره‏.‏ وكان حق مرتوي أن ينتصب لأنه معطوف على كفافاً، كما تقول‏:‏ كان زيد جالساً وبكر قائماً، تريد‏:‏ وكان بكر قائماً، فكأنه قال‏:‏ ليتك وليت الشأن كان خيرك كفافاً وكان شرك مرتوياً عني‏.‏

وأسكن ياء مرتوي في موضع النصب، لإقامة الوزن، كقول بشر‏:‏

كفى بالنأي من أسماء كافي

وكان حقه‏:‏ كافياً‏.‏

وقال في المجلس الثاني‏:‏ وذهب أبو علي على رواية رفع وشرك، إلى أن إلخ بر مرتوي، وكان حقه مرتوياً، ولكنه أسكن الياء لإقامة الوزن والقافية، وهو من الضرورات المستحسنة؛ لأنه رد حالة إلى حالتين‏.‏

أعني أن الشاعر حمل حالة النصب على حالة الرفع والجر، وحسن إلخ بار عن الشر بمرتوي، لأن الارتواء يكف الشارب عن الشرب، فجاز لذلك تعليق عني بمرتوي‏.‏ انتهى‏.‏

وكلهم حمل تسكين مرتوي على الضرورة، ولم يذكر أحد منهم أنه وقف على لغة ربيعة، فإن لغتهم الوقف على المنصوب المنون بالسكون‏.‏

قال ابن الحاجب‏:‏ ولا يجوز أن يكون شرك مرتوي مبتدأ وخبراً، كقولك‏:‏ كان زيد قائماً وعمرو منطلق؛ لفساد المعنى، لأنه يكون حينئذ جملة مستقلة منقطعة عن التمني في المعنى، مثلها في قولك‏:‏ ليت زيداً قائم وعمرو منطلق، لأن عمرو منطلق في مثل ذلك مثبت له الانطلاق، غير داخل في حيز التمني، بخلاف ليت زيداً قائم وعمراً منطلق‏.‏

وإذا ثبت ذلك كان جعلك وشرك مرتوي مرفوعاً على الابتداء يوجب أن يكون مخبراً بإثبات، فيوجب إخباره بأن شره منكف، فيفسد المعنى، إذ المعنى أن شره زائد، وأنه يتمنى أن لا يكون كذلك، فكيف يحمل على وجه يثبت ما مقصود المتكلم نفيه‏.‏ انتهى‏.‏

وقول الشارح‏:‏ ويكون الماء على هذا الوجه مرفوعاً، أي‏:‏ على وجه جعل مرتوي خبراً لقوله‏:‏ وشرك‏.‏

وقوله‏:‏ فاعل ارتوى، أي مادام الماء ريان، هذا أحد وجهين فيه‏.‏ قال ابن الشجري‏:‏ وعلى مذهب أبي علي في كون مرتوي خبراً لكان رفع الماء بتأويلين‏:‏ أحدهما‏:‏ تقدير حذف مضاف، أي‏:‏ ما ارتوى أهل الماء، كما جاء‏:‏ واسأل القرية، أي‏:‏ أهل القرية، وحتى تضع الحرب أوزارها ، أي‏:‏ يضع أهل الحرب أسلحتهم‏.‏ ومن كلامهم‏:‏ صلى المسجد، أي‏:‏ أهل المسجد‏.‏ وقد كثر حذف المضاف جداً‏.‏

وثانيهما‏:‏ ما أجازه بعض المتأخرين، وهو أن يكون الماء فاعل ارتوى من غير تقدير مضاف‏.‏ قال‏:‏ وجاز وصف الماء بالارتواء للمبالغة، كما جاز وصفه بالعطش، لذلك قال المتنبي‏:‏

وجبت هجيراً يترك الماء صاديا

وقد تكلف بعض المتأخرين نصب الماء، في القول الذي ذهب إليه أبو علي، وذلك على إضمار فاعل ارتوى، قياساً على ما حكاه سيبويه من قولهم‏:‏ إذا كان غداً فأتني، أي‏:‏ إذا كان ما نحن فيه من الرخاء والبلاء غداً‏.‏ فقدر ما ارتوى الناس الماء‏.‏

وأنشد على هذا قول الشاعر‏:‏

إذا كان لا يرضيك حتى تردني *** إلى قطري ما إخالك راضيا

أراد‏:‏ إن كان لا يرضيك شأني وما أنا عليه، فأضمر ذلك للعلم به‏.‏ وأقول‏:‏ إن الإضمار فيما حكاه سيبويه حسن، لأنه معلوم‏.‏ وتقدير إضمار الناس في قوله‏:‏ ما ارتوى الماء، بعيد‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى أن هذا القول تعسف من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ حذف الفاعل من غير الصور المعدودة‏.‏

وثانيهما‏:‏ حذف الباء، وحرف الجر لا يحذف إلا سماعاً‏.‏

ثم قال ابن الشجري‏:‏ وغير أبي علي ومن اعتمد على قوله، رووا نصب الماء، ولم يرووا فيه الرفع، فلزموا ظاهر اللفظ والمعنى، فذهبوا إلى أن الفاعل لارتوى مرتوي‏.‏

وأبو طالب العبدي منهم، وذلك أنه ذكر لفظ أبي علي في تعريب البيت، ثم قال‏:‏ وأنا مطالب بفاعل ارتوى‏.‏ ثم مثل قوله ما ارتوى الماء مرتوي بقوله‏:‏ ما شرب، أي‏:‏ أبداً‏.‏ فدل كلامه على أنه لم يعرف المعنى الذي ذهب إليه أبو علي، من نصب مرتوي على أنه خبر كان، ورفعه على أنه خبر ليت‏.‏

والقول عندي فيه أن الالتزام بالظاهر على ما ذهب إليه العبدي أشبه بمذاهب العرب فيما يريدون به التأييد، كقولهم‏:‏ لا أفعل كذا ما طار طائر، ولا أكلمك ما سمر سامر‏.‏

وقد مر بي كلام لأبي علي ذهب عني مكانه، يتضمن تجويز رفع مرتوي بارتوى‏.‏ وأما منذ زمان أجيل فكري وطرفي في تعرف الكلام الذي سنح لي فيه كلامه، فلا أقف عليه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ جعل ابن بابشاذ مرتوي منصوباً على المصدر، أي‏:‏ ارتواء، ورد عليه بأن اسم الفاعل فيما زاد على الثلاثة لا يكون مصدراً، وإنما يكون ذلك في اسم المفعول، نحو‏:‏ ضاربته مضارباً‏.‏ قال‏:‏

أقاتل حتى لا أرى لي مقاتل *** وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس

وكأنه قاسه على الثلاثي، نحو‏:‏ قم قائماً، وقائماً وقد قعد الناس‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ تجويز هذا إنما يتصور في رفع الماء، وجعل المعطوف مشاركاً للمعطوف عليه في خبره‏.‏

بقي على الشارح المحقق توجيه‏:‏ وشرك في رواية نصبه‏.‏

قال ابن الشجري‏:‏ ومن قال‏:‏ وشرك بالنصب، حمله على ليت، ولا يجوز أن يكون محمولاً على ليت المذكورة، لأن ضمير الشأن لا يصح العطف عليه لو كان ملفوظاً به، فكيف وهو محذوف‏.‏

وإذا امتنع حمله على ليت المذكورة حملته على أخرى مقدرة‏.‏ وحسن ذلك لدلالة المذكورة عليها، كما حسن حذف كل فيما أورد سيبويه من قول الشاعر‏:‏

أكل امرئ تحسبين امر *** ونار توقد بالليل نارا

أراد‏:‏ وكل نار، فكأنه قال‏:‏ وليت شرك مرتو عني‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ يروى بنصب شرك، إما على أنه اسم لليت محذوفة، وإما على العطف على اسم ليت المذكورة إن قدر ضمير المخاطب‏.‏ انتهى‏.‏

وقد غفل صاحب اللباب فيما علقه عليه عن عدم جواز العطف على ضمير الشأن، فقال‏:‏ شرك بالنصب عطف على اسم ليت ضمير الشأن‏.‏

ثم قال ابن الشجري‏:‏ فمرتوي في هذا التقدير على ما يستحقه من إسكان يائه لكونه خبراً لليت‏.‏ وعلى مذهب أبي علي في كون مرتوي خبراً لكان، ولليت يجوز في الماء الرفع والنصب، وتقدما‏.‏

وأبو طالب العبدي لم يعرف إلا نصب الماء، ولم يتجه له إلا إسناد ارتوى إلى مرتوي، وذلك انه قال‏:‏ معنى ما ارتوى الماء مرتو‏:‏ ما شرب الماء شارب‏.‏

ثم قال‏:‏ وأما ما ذكره الشيخ أبو علي من قوله‏:‏ وإن حملت العطف على كان، كان مرتوي في موضع نصب‏.‏ وإن حملته على ليت نصبت قوله‏:‏ وشرك ومرتو مرفوع، فكلام لم يفسره رحمه الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ومر بي بعد هذا في تعليقي كلام الشيخ أبي علي، أنا حاكيه على الوجه، وهو أنه أورد البيت ثم قال بعد إيراده‏:‏ ليت محمول على إضمار الحديث، وكفافاً خبر كان‏.‏

فأما قوله‏:‏ وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي، فقياس من أعمل الثاني أن يكون شرك مرتفعاً بالعطف على كان، ومرتوي في موضع نصب، إلا أنه أسكن في الشعر، مثل‏:‏

كفى بالنأي من أسماء كافي

ومن أعمل الأول نصب شرك بالعطف على ليت، ومرتوي في موضع رفع لأنه إلخ بر، وما ارتوى الماء في موضع نصب ظرف يعمل فيه مرتوي‏.‏ هذا ما ذكره أبو علي‏.‏

ثم قال العبدي‏:‏ وقد تقدمت مطالبتي بفاعل ارتوى، وإذا ثبت ما ذكرته علم أن الأمر، ما قلته، والمعنى عليه لا محالة‏.‏ انتهى‏.‏

فملخص ما تقدم‏:‏ أنه يجوز أن يكون كفافاً اسم ليت مع نصب خيرك وشرك عني عند عبد القاهر، ومع رفعهما بتقدير خبر كان ضميراً عند أبي حيان‏.‏

ويجوز أن يكون اسم ليت ضمير شأن ومخاطب، واسم كان خيرك وشرك، وكفافاً خبر كان، عنهم وعن أولهما وخبر الثاني محذوف، وعني متعلقه، وجملة‏:‏ كان خيرك وشرك كفافاً عني‏:‏ خبر ليت عند الجمهور، ومرتوي فاعل ارتوى، والماء مفعوله عند الجميع‏.‏

وعند أبي علي جملة‏:‏ كان خيرك كفافاً، خبر ليت، وشرك عني مرتوياً معطوفان على خيرك كفافاً‏.‏ وإن نصب شرك بتقدير ليت، فجملة‏:‏ وشرك عني مرتوي معطوفة على جملة ليت المتقدمة‏.‏ وعني في الوجهين عنده متعلقة بمرتوي‏.‏ وكذلك الماء في الوجهين عنده يجوز رفعه ونصبه‏.‏

هذا تحرير الأقوال في البيت، وتمييز ما لكل قول عن إلخ ر‏.‏

وقد لخص ابن هشام في المغني كلام ابن الشجري في غير وجهه، فإنه لم يبين ما ينبني على كل قول من الأقوال‏.‏ قال‏:‏ في البيت إشكال من أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ عدم ارتباط خبر ليت باسمها، إذ الظاهر أن كفافاً اسم ليت، وأن كان تامة، وأنها وفاعله إلخ بر، ولا ضمير في هذه الجملة‏.‏

والثاني‏:‏ تعليق عني بمرتو‏.‏

الثالث‏:‏ إيقاع الماء فاعلاً بارتوى، وإنما يقال ارتوى الشارب‏.‏

والجواب عن الأول أن كفافاً، إنما هو خبر لكان مقدم عليها، وهو بمعنى كاف، واسم ليت ضمير الشأن والمخاطب، وخيرك اسم كان، وكله توكيد له، والجملة خبر ليت‏.‏

وأما شرك فيروى بالرفع عطفاً على خيرك، فخبره إما محذوف تقديره كفافاً فمرتوي فاعل بارتوى، وإما مرتوي على أنه سكن للضرورة‏.‏ ويروى بالنصب إما على أنه اسم لليت محذوفة، وإما على العطف على اسم ليت المذكورة إن قدر ضمير المخاطب، ومرتو على الوجهين مرفوع خبر لليت المحذوفة والمذكورة‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أنه ضمن مرتو معنى كاف، لأن المرتوي يكف عن الشرب‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أنه إما على حذف مضاف، أي‏:‏ شارب الماء، وإما على جعل الماء مرتوياً مجازاً‏.‏

ويروى بالنصب على تقدير من، ففاعل ارتوى على هذا مرتو‏.‏ هذا تلخيصه‏.‏

ولا يخفى أن تضمين مرتو معنى كاف ورفع الماء، يختصان بقول أبي علي‏.‏ ونصب الماء مع جعل مرتو فاعلاً إنما هو على غير قوله كما ذكرنا‏.‏

والبيت من قصيدة ليزيد بن الحكم، وتقدمت مع ترجمته في الشاهد الثمانين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد إلخ امس والثمانون بعد الثمانمائة

فلو أن واش باليمامة داره

على أنه حذف النصب من واش لضرورة الشعر، وكان القياس أن يقول‏:‏ فلو أن واشياً، لأن إعراب نحو القاضي يقدر في الرفع والجر، لثقل الضمة والكسرة على الياء، وتلفظ به في النصب لخفة الفتحة‏.‏ وإسكان الياء ضرورة‏.‏

قيل إنه من أحسن الضرورات، وقد حذفت هنا لالتقائها ساكنة مع سكون نون التنوين‏.‏ وروي فلو كان واش فهو على القياس‏.‏

والمصراع من قصيدة لمجنون بني عامر، وهذه أبيات منها‏:‏

خليلي لا والله لا أملك الذي *** قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا

قضاها لغيري وابتلاني بحبه *** فهلا بشيء غير ليلى ابتلائيا

فلو كان واش باليمامة داره *** وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا

وماذا لهم لا أحسن الله حفظهم *** من الحظ في تصريم ليلى حباليا

وهذه أشهر قصائده، وهي طويلة جداً‏.‏

وقوله‏:‏ قضاها لغيري البيت، روى صاحب الأغاني بسنده، أن المجنون لما قاله نودي في الليل‏:‏ أأنت المتسخط لقضاء الله وقدره، والمعترض في أحكامه‏!‏ واختلس عقله، وتوحش منذ تلك الساعة، وذهب مع الوحش على وجهه‏.‏

والواشي‏:‏ الذي يزوق الكلام ليفسد بين شخصين، وأصله من وشى الثوب يشيه وشياً، إذا نقشه وحسنه‏.‏

واليمامة‏:‏ اسم بلد، وكان اسمها في الجاهلية الجو، بفتح الجيم وتشديد الواو‏.‏ واليمامة‏:‏ اسم جارية زرقاء، كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، سمي البلد باسمها لكثرة ما كان يضاف إليها، فيقال‏:‏ جو اليمامة‏.‏ وحضرموت، بفتح الميم وضمها مدينة باليمن‏.‏ وقوله‏:‏

اهتدى ليا

اللام بمعنى إلى‏.‏

وروي بدله‏:‏

وداري بأعلى حضرموت أتى ليا

بتنوين حضرموت للضرورة‏.‏

وقوله‏:‏ وماذا لهم استفهام، والضمير للوشاة، وجملة‏:‏ لا أحسن الله حفظهم‏:‏ دعاء عليهم‏.‏ ومن الحظ متعلق بما تعلق به لهم‏.‏ وتصريم‏:‏ تقطيع، وهو مصدر مضاف إلى فاعله، وهو ليلى‏:‏ اسم عشيقته‏.‏ وحاليا مفعوله‏:‏ جمع حبل، وهو مستعار للوصلة والألفة بين شخصين‏.‏

وترجمة مجنون بني عامر تقدمت في الشاهد التسعين بعد المائتين‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏

الحروف العاطفة

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والثمانون بعد الثمانمائة وجونةٍ قدحت وفض ختامها

على أن الواو لا تدل على ترتيب، بل تدخل على متقدم على ما قبله كما هنا، فإن فض إلخ تام قبل القدح‏.‏

وهذا المصراع عجز، وصدره‏:‏

أغلي السباء بكل أدكن عاتقٍ

يقال‏:‏ أغليت الشيء‏:‏ اشتريته غالياً‏.‏ والسباء، بكسر السين المهملة بعدها موحدة‏:‏ اشتراء إلخ مر، ولا يقال في غيرها‏.‏ يقال‏:‏ سبأت إلخ مر بالهمز أسبؤها سباء بفتح عين الماضي والمضارع، فيكون في الأول تجريد، أي‏:‏ أدفع الثمن الغالي في اشتراء إلخ مر‏.‏ والباء في بكل‏:‏ ظرفية متعلقة بحال محذوفة، إذا المراد‏:‏ أغلي سباء إلخ مر كائنه في أدكن، بالدال المهملة، وهو الزق‏.‏

قال الجوهري‏:‏ الدكنة‏:‏ لون يضرب إلى السواد‏.‏ وقد دكن الثوب من باب فرح، والشيء أدكن‏.‏ وأنشد البيت، وقال‏:‏ يعني زقاً قد صلح، وجاد في لونه ورائحته لعتقه‏.‏

والزق كما قال صاحب المصباح‏:‏ هو بالكسر‏:‏ الظرف، وبعضهم يقول‏:‏ ظرف زفت وقير‏.‏ وعاتق بمعنى عتيق، صفة أدكن‏.‏

قال الدينوري‏:‏ في كتاب النبات عند إنشاده هذا البيت‏:‏ ذهب بعضهم إلى أن العاتق إلخ مر التي لم تفض في بعد‏.‏ ذهب إلى معنى الجارية العاتق، وهي البكر، وليس كذلك، بل هو من عتق القدم، يقال في كل ما تقادم‏:‏ عتق يعتق ويعتق، أي من باب ضرب ونصر، فهو عاتق‏.‏

والأدكن‏:‏ الزق‏.‏ وقد أخطأ العيني هنا في قوله‏:‏ وإنما منع أدكن الجر لامتناعه من الصرف، للعلمية ووزن الفعل‏.‏

وقوله وجونة بالجر عطف على أدكن، وهي بفتح الجيم‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ هي إلخ ابية، والباطية المقيرة‏.‏

وكذا قال الجوهري‏:‏ الجونة‏:‏ إلخ ابية مطلية بالقار‏.‏ وقدحت، بالبناء للمفعول، الجملة صفة لجونة‏.‏ وقدحت‏:‏ غرفت‏.‏ والمقدحة‏:‏ المغرفة‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ إذا استخمرت إلخ مر، فضوا عنها ختامها، ثم استخرجوها من أعلى الوعاء اغترافاً، وهو القدح، وقد قدحت فهي مقدوحة‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ معنى قدحت مزجت، وقيل معناه بزلت، يقال‏:‏ بزلت الشيء بزلاً، إذا ثقبته، واستخرجت ما فيه، والمبزل‏:‏ المثقب‏.‏ وفض بضم الفاء، أي‏:‏ كسر‏.‏ وختامها‏:‏ طينها‏.‏ والضمير للجونة‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ الفتق والفك والفض شيء واحد‏.‏ وقد فتق دنه وفضه، فاقتدح ما فيه‏.‏ في المصباح‏:‏ فضضت إلخ تم فضاً، من باب قتل‏:‏ كسرته‏.‏ وفضضت البكارة‏:‏ أزلتها، على التشبيه بالختم‏.‏

قال الفرزدق‏:‏ الوافر

فبتن بجانبي مصرعاتٍ *** وبت أفض أغلاق إلخ تام

مأخوذ من فضضت اللؤلؤة، إذا خرقتها، وفي الصحاح‏:‏ إلخ تام‏:‏ الطين الذي يختم به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختامه مسكٌ‏}‏، أي‏:‏ آخره، لأن آخر ما يجدونه رائحة المسك‏.‏

والبيت من معلقة لبيد الصحابي، قال شارحها أبو الحسين الزوزني‏:‏ يقول أشتري إلخ مر غالية السعر باشتراء كل زقً أدكن، وخابية سوداء قد فض ختامها، وأغترف منها‏.‏ وتحرير المعنى‏:‏ اشتراء إلخ مر للندماء عند غلاء السعر، واشتراء كل زقً مقير وخابية مقيرة‏.‏ وإنما قيرا لئلا يرشحا بما فيهما، وليسرع صلاحه، وانتهاؤه، وهو إدراكه‏.‏

وقوله‏:‏ قدحت وفض ختامها فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ فض ختامها وقدحت، لأنه ما لم يكسر ختامها لا يمكن اغتراف ما فيها من إلخ مر، انتهى‏.‏

وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

يا لهف زيابة للحارث الص *** بح فالغانم فالآيب

وتقدم شرحه في الشاهد الحادي والخمسين بعد الثلثمائة في أول باب العطف‏.‏

وأنشده بعده

الشاهد السابع والثمانون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمه *** لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل

على أن الفاء الداخلة على الأماكن بمعنى إلى، أي‏:‏ منازل بين الدخول إلى حومل إلى توضح إلى المقراة‏.‏

وهذا أحد جوابين أجاب بهما الشارح عن إشكاله، وهو أن الفاء تقتضي التفريق، وهو منافٍ لما تفهمه بين من الاجتماع، لأن البينية نسبة، وأقل ما تستدعيه منتسبان‏.‏ وأنت إذا قلت‏:‏ المال بين زيد وعمرو، فقد أفدت احتواءهما، واجتماعهما على ملكه‏.‏

ولهذا الإشكال أنكر الأصمعي ومن تبعه رواية الفاء، وقال‏:‏ إنما الرواية‏:‏ وحومل وتوضح والمقراة‏.‏

قال العسكري في كتالب التصحيف‏:‏ تكلم الناس في قوله‏:‏ بين الدخول فحومل، قال أبو إسحاق الزيادي‏:‏ الرواية‏:‏ بين الدخول فحومل، ولا يكون فحومل‏.‏ لأنك لا تقول‏:‏ رأيتك بين زيد فعمرو‏.‏

وهذا سمعه الزيادي من الأصمعي، فسألت ابن دريد عن الرواية، فحكى ما قال الأصمعي ولم يزد عليه، فسألت أبا بكر محمد بن علي بن إسماعيل، فقلت‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ لا يجوز أن تقول‏:‏ رأيته بين زيد فعمرو‏.‏

وكان ينكر بين الدخول فحومل‏.‏ فأملي علي الجواب، فقال‏:‏ إن لكل حرف من حروف العطف معنى، فالواو تجمع بين الشيئين، نحو‏:‏ قام زبد وعمرو، فجائز أن يكونا كلاهما قاما في حالة واحدة، وأن يكون قام الأول بعد الثاني، وبالعكس‏.‏ والفاء إنما هي دالة على أن الثاني بعد الأول، ولا مهلة بينهما‏.‏

فقال الأصمعي - وكان ضعيفاً في النحو - غير أنه كان ذا فطنة‏:‏ أطبقت الرواة على بين الدخول وحومل، ولا يجوز فحومل، لأنه ليس يقصد أن يكون بياناً لشيئين أحدهما بعد إلخ ر، ثم يكون الشيء بينهما، إنما يريد أنهما لا يجتمعان، وهو بينهما، كما تقول‏:‏ زيد بين الكوفة والبصرة، ولا تقول‏:‏ فالبصرة، فقد أجاد فطنة‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أجاب الشارح على تقدير صحة رواية الفاء بجوابين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها بمعنى إلى، لدخولها في الأماكن، فلا تدل على الترتيب المقتضي للتفريق‏.‏ وهذا الجواب مركب من قولين، لأن الذي يقول‏:‏ إن الفاء بمعنى إلى لا يشترط في مدخولها أن يكون مكاناً‏.‏ ومن ذكر دخولها على المكان لا يقول إنها بمعنى إلى، وإنما هي عنده بمعنى الواو لمطلق الجمع، ولا تفيد ترتيباً، والأول قول بعض البغداديين‏.‏

قال العسكري‏:‏ قال بعض البغداديين‏:‏ أراد قفا نبك ما بين الدخول إلى حومل إلى توضح إلى المقراة‏.‏ فالفاء في موضع إلى، فأضمر ما مع بين، كقولك‏:‏ هو أحسن الناس قرناً فقدماً، ولم يضمر بين‏.‏ فأراد فابكيا هذا إلى ذا‏.‏ انتهى‏.‏

ونقله ابن هشام أيضاً في المغني، فقال‏:‏ وقال بعض البغداديين‏:‏ الأصل ما بين الدخول، فحذف ما دون بين كما عكس من قال‏:‏ البسيط

يا أحسن الناس ما قرناً إلى قدمٍ

أصله ما بين قرن، فحذف بيناً، وأقام قرناً مقامها، ومثله‏:‏ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها ، قال‏:‏ والفاء نائبة عن إلى، ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال‏:‏ وصحت إضافة بين إلى الدخول لا شتماله على مواضع، ولأن التقدير بين مواضع الدخول، انتهى‏.‏

والثاني‏:‏ هو قول الجرمي، قال أبو حيان في الارتشاف وابن هاشم في المغني‏:‏ وقال الجرمي‏:‏ لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع، ولا في الأمطار، بدليل قوله‏:‏ بين الدخول فحومل، وقولهم‏:‏ مطرنا مكان كذا فمكان كذا، وإن كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا أقرب من القولين إلخ رين وأسهل‏.‏ والقول الثاني يحتاج إلى معونة، وقد بينها ابن هشام بقوله‏:‏ ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال‏:‏ وصحت إضافة بين إلى الدخول لاشتماله على المواضع‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏إلخ‏.‏

وذلك لأن الدخول مفرد، والفاء غاية، وبين موضع للتوسط إنما بين اثنين منفصلين، نحو‏:‏ المال بين زيد وعمرو، وإما بين اثنين مجتمعين في لفظة، نحو‏:‏ المال بين الرجلين، وإما بين جماعة مفرقة، نحو‏:‏ المال بين زيد وعمرو وبكر، وإما بين جماعة مجتمعة في لفظه نحو‏:‏ المال بين الرجال، وبين القوم، فلا تضاف إلى مفرد لفظاً ومعنىً إلا أن أول بما يدل على التعدد‏.‏ وفيه أيضاً تكلف، وهو ادعاء حذف ما‏.‏

وهذا لا يجوز عند البصريين، سواء كانت ما موصولة إذ لا يحذف الموصول، وتبقى صلته، أم موصوفة إذ شرط حذف الموصوف بالجملة وبالظرف أن يكون بعضاً من مجرور بمن وفي‏.‏ وإنما احتاج إلى تقديرها لأن نبك فعل متعد بنفسه يطلب مفعولاً، يقال‏:‏ بكيته، ويتعدى بالحرف أيضاً، يقال‏:‏ بكيت عليه وله‏.‏ وأما بكيته بالتشديد فمعناه‏:‏ جعلته باكياً، كأبكيته بالهمزة‏.‏

وتقدير الشارح‏:‏ أي منازل بين الدخول خير منه، أشار به إلى أن بين مفعول لنبك بتقدير مضاف، أي‏:‏ قفا نبك منازل بين الدخول‏.‏

وفي القولين إشارة إلى أن بين ليس حالاً من سقط اللوى، ولا صفة له‏.‏

قال ابن الملا تبعاً للعيني‏:‏ بسقط اللوى‏:‏ صفة منزل، وبين الدخول صفة سقط اللوى، أي‏:‏ من منزل كائن بسقط اللوى الكائن بين الدخول‏.‏

وإنما قدرنا متعلق الصفة الثانية اسماً معرفاً وإن كان المشهور تقديره فعل واسماً منكراً رعاية لجانب المعنى‏.‏ ولا يحسن جعل الظرف حالاً، إذ ليس القصد إلا التقييد‏.‏

هذا كلامه‏.‏

ولنا عنهما غنية بجعله صفة ثانية لمنزل، وبدلاً من سقط اللوى، مع أن في قوله مخالفة لقولهم‏:‏ الجمل والظروف بعد المعارف أحوال، وبعد النكرات صفات‏.‏

ولا يخفي أنه لا حاجة إلى ادّعاء حذف ما، وحذف مضاف، لأن المبكيّ من أجله مذكور، وهو قوله‏:‏ من ذكرى حبيب ومنزل، ومن فيه بمعنى اللام تعليلية، والمبكيّ من أجله، والمبكيّ عليه مآلهما واحد‏.‏

والأولى حمل تقدير الشارح هذا المضاف عليه، بجعله ظرفاً لنبك وبدلاً من منزل، فيقرأ بالجر، فيكون أشار به إلى أن المبكيّ من أجله منازل، لا منزل واحد، لأن المواضع أربعة وأقلّ منازلها مثلها‏.‏

والقول الثالث، وهو قول الشارح المركّب منهما، محتاج إلى المعونة التي ذكرناها، إذ لا يصحّ إلاّ بتقدير بين أماكن الدخول إلى حومل‏.‏

وقد أشار إليها ابن جني في سر الصناعة، قال‏:‏ إذا قلت‏:‏ مطرنا بين زبالة فالثّعلبية، أردت أن المطر انتظم الأماكن التي ما بين القريتين، يقروها شيئاً فشيئاً بلا فرجة، فإذا قلت‏:‏ مطرنا ما بين زبالة فالثّعلبية أردت أن المطر وقع بينهما، ولم ترد أنه اتصل في هذه الأماكن من أولها إلى آخرها، انتهى‏.‏

وإذ آل الجواب إليه رجع إلى الجواب الثاني الآتي، وحينئذ لا فائدة لجعل الفاء بمعنى إلى‏.‏

وفي صنيع الشارح أمور‏:‏ أحدها‏:‏ قوله‏:‏ وقد تجيء الفاء العاطفة للمفرد بمعنى إلى أراد أنها كانت عاطفة قبل مجيئها بمعنى إلى وأما بعده فهي متمحّضة للغاية، كما هو ظاهر من كلامه على البيت‏.‏ ولا ينافيه قوله‏:‏ حذفه، أي‏:‏ حذف الواو مع فاء العطف إلخ ، لأن المراد فاء العطف صورة لا حقيقة، وفيه أنه لا ضرورة إلى تقدير واو العطف معها فإنها عاطفة‏.‏

ولا يمنع من عطفها كونها بمعنى إلى، فإن والعاطفة تأتي بمعنى إلى، وبمعنى إلا، ولم يقل أحد إنها مجردة من العطف فيهما، والعطف بها واقع قطعاً كما في المثال والشعر، وهي نائبة عن إلى، لا أنها بمعناها‏.‏

ثانيها‏:‏ قوله‏:‏ على ما حكى الزجاجي‏:‏ مطرنا ما بين زبالة فالثعلبيّة، هذه الحكاية والتوجيه إنما هما للكسائي والفراء، قال في تفسير الآية‏:‏ وأما الوجه الثالث وهو أحبّها إليّ، فأن تجعل المعنى على‏:‏ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها ‏.‏

والعرب إذا ألقت بين من كلام تصلح إلى في آخره، نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما ببين والآخر بإلى، فيقولون‏:‏ مطرنا ما زبالة فالثّعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملاً، وهي أحسن الناس ما قرناً فقدماً، يراد به ما بين قرنها إلى قدمها‏.‏

ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة، فتقول‏:‏ هي حسنة ما قرنها فقدمها‏.‏ فإذا لم تصلح إلى في آخر الكلام، لم يجز سقوط بين، من ذلك أن تقول‏:‏ داري ما بين الكوفة فالمدينة، فلا يجوز أن تقول‏:‏ داري ما بين الكوفة والمدينة، لأن إلى إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كله من دارك، كما كان المطر آخذاً ما بين زبالة إلى الثعلبية‏.‏

قال الكسائي‏:‏ سمعت أعرابياً يقول ورأى الهلال‏:‏ الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك، يريد‏:‏ ما بين إهلالك إلى سرارك‏.‏ فجعلوا النصب الذي في بين فيما بعدها إذا سقطت، ليعلم أن معنى بين يراد‏.‏

وحكى الكسائي عن بعض العرب‏:‏ الشّنق ما خمساً إلى خمس وعشرين‏.‏ والشّنق ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل‏.‏

ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لم تصلح فيه إلى، كقولك‏:‏ دار فلان بين الحيرة والكوفة؛ محال، وجلست بين عبد الله فزيد، محال، إلاّ أن يكون مقعدك آخذاً للفضاء الذي بينهما، وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه إلى، لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، وإلى يحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عين‏.‏

وصلحت الفاء في إلى لأنك تقول‏:‏ أخذ المطر أوله فكذا وكذا إلى آخره‏.‏ فلما كان الفعل كثيراً شيئاً بعد شيء في المعنى، كان فيه تأويل من الجزاء، انتهى كلام الفراء‏.‏

وفيه فوائد‏:‏ منها قوله‏:‏ هي حسنة ما قرنها فقدمها‏.‏ وبه يردّ على الدماميني في قوله‏:‏ على ما قرناً إلى قدم‏:‏ كون أصله‏:‏ ما بين قرنٍ، دعوى لا دليل عليها‏.‏ ويجوز أن تكون ما زائدة، وقرناً تمييز ومنصوب على نزع إلخ افض‏.‏ انتهى‏.‏

ويأتي في كلام أبي حيان حقيقة ما‏.‏ والقرن بفتح القاف وسكون الراء‏:‏ إلخ صلة من الشعر، بضم إلخ اء المعجمة‏.‏

ومنها ضابط سقوط بين، وهو غير موجود في الشرح‏.‏

ثالثها‏:‏ قوله‏:‏ ولا يجوز حذف ما لكونه موصولاً، فإنه لم يشبع الكلام على ما الواقعة مع بين، فإنه يجوز حذفها في غير هذين المثالين، ولم يشرح وجه موصوليتها فيهما‏.‏

وقد تكفّل ببيان ذلك جميعه أبو حيان في تذكرته، قال‏:‏ إذا أتيت ببين صلة لما، فقيل أعجبني ما بينكما، فسقوط ما جائز، وتقضي على بين بالرفع، ولفظها منصوب‏.‏ ولك أن ترفع بين الفعل وتعطي حقّ الأسماء، فتضمر ما، ولا تضمر الذي، فإنها تكون وقتاً ومحلاً، فالأول كقولهم‏:‏ لا أكلّمك ما دام للزّيت عاصر، فما موضوعة في موضع أبداً، وانتصابها فيه كانتصاب لا أكلّمك القارظ العنزيّ‏.‏

والثاني كقولهم‏:‏ جلس ما بين الدارين، واستوى ما بين المنزلتين، وأقام ما بين المسجدين، فلما أتت ما محلاًّ، أي‏:‏ ظرفاً ووقتاً، ضارعت المحلّ الذي بعدها، فكفى منها‏.‏ واختصت بين بالنيابة عن ما، لأنّ ما تكون شرطاً، وبين يشرط بها في قولهم‏:‏ بينما أنصفني ظلمني، وبينما اتصل بي قطعني‏.‏

وأما الذي فلا يعرف له ذلك، ولا يستعمل فيه‏.‏ ولما معنىً ثانٍ هو الجزاء في أصل البنية، وإقرارها على لفظ الذي، وذلك قول العرب‏:‏ مطرنًا ما زبالة، فالثّعلبية، فزرود‏.‏

حكاه الكسائي عن العرب، ومعناه‏:‏ مطرنا ما بين زبالة إلى الثعلبية، فنابت زبالة عن بين، وجعل نصب بين فيها، ونسقت الثعلبية فزرود عليها، ونصبت ما بمطرنا على أن لفظها الذي، ولزمت الفاء مكان إلى، ولم يصلح مكانها واو، ولا ثم، ولا أو، ولا لا، لأنها تحفظ تأويل الجزاء، وتجري في هذا الكلام مجراها في‏:‏ إن زرتني فأنت محسن، ولا يجوز‏:‏ وأنت، لأنه لا يوصل الشرط إلا بالفاء إذ كانت تفعل ذلك في ضربته فبكي‏.‏

وأصل الكلام‏:‏ إن اتّصل المطر إلى زبالة فالثعلبية فهو مطرنا، فذلك الذي ينبغي‏.‏ فتحوّلت ما إلى لفظ الذي، وأصلها الشرط، ولزمت الفاء مراقبة لذلك الأصل، ونابت عن إلى، ولولا الشرط الذي بنيت المسألة عليه، لم يعطف واحد بالفاء على مخفوض بين، إذ لا يقال فيما تعرّى من معنى الشرط‏:‏ المال بين أبيك فأخيك‏.‏

وحكى الكسائي والفراء بن العرب‏:‏ هي أحسن الناس ما قرناً فقدماً، معناه‏:‏ ما بين قرن إلى قدم، فلزمت الفاء لأنّ ما شرط في الأصل، ومحسّنة ذلك، حسن إلى في موضع الفاء، وانتصب ما في هذه المسألة على التفسير، وانتصب القرن بنصب بين المسقط، وعطفت القدم على القرن‏.‏

ثم نقل كلام الفراء، وقال‏:‏ وما في ذا المعنى لا تسقط، فخطأ أن يقال‏:‏ مطرنا زبالة فالثّعلبية، لأن ما وبين اسم واحد يدخل طرفاه فيه، وما هي الحدّ بين الشيئين، دليل هذا‏:‏ أن الذي يقول‏:‏ له عليّ ما بين الألف إلى الألفين، يدل بما على استيفاء ما بين الألف والألفين‏.‏

ولو قال‏:‏ جلست ما بين الدارين، لم يكن جامعاً لكل ما بينهما، فأتت الفاء لمذهب الشرط، وإن لم يذكر حرف الشرط، كما لزمت الفاء مع أما فقيل‏:‏ أمّا عبد الله فقائم، لأن المعنى‏:‏ مهما يكن من شيء فعبد الله قائم‏.‏

والفرق بين جلست ما بين عبد الله فزيد، وجلست بين عبد الله فزيد‏:‏ أن ما إذا حضرت، كان الذي بين الطرفين مجلوساً في جميعه، وإذا لم تكن ما احتمل الكلام جلوساً في بعض الذي بين المكانين‏.‏

فإذا قيل‏:‏ عبد الله ما بين أخيك وأبيك، فما منتصبة على انتصاب المحلّ، وأصلها الشرط، وما بين إلخ والأب كلّه لعبد الله موضع‏.‏

فإن قيل‏:‏ عبد الله بين أخيك فأبيك، فموضع عبد الله بعض ما بين الموضعين، ويجوز استغراق المكان كلّه‏.‏

ولم يذكر الفراء‏:‏ زيد ما أخاك وأباك‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ هو عندي خطأ، لأن ما موضوعة للعموم، وبين لا تحذف إلاّ بعدها اعتماداً عليها مع خلافة الذي يليها لها‏.‏

وبين من أسماء المواضع التي ليست ناساً، فلا يخلف بين بعدها إلاّ ما لا يكون من أسماء الأناسيّ مثل القرن والقدم، والإهلال والسّرار، والناقة والجمل وما يجري مجرى ذلك‏.‏

ومن قال‏:‏ داري ما الكوفة فالحيرة، وهو يذهب إلى ما بين الكوفة إلى الحيرة لم يصب؛ لأنّ هذا الكلام لا يستقيم إلاّ بأن تكون الدار مالئة كلّ الموضع الذي بين الكوفة والحيرة، وما شوهدت دار كذا‏.‏

فإن لم تذكر ما لم يبطل أن يقال‏:‏ داري بين الكوفة فالحيرة، على أن الدار آخذة بعض ما بين الكوفة والحيرة، ولو قال‏:‏ له عليّ ما الألف والألفين، يريد ما بين الألف إلى الألفين كان الكلام مستقيماً، لوقوع ما وبين على جميع ما بين الطرفين، ودخول الطرفين فيهما، أعني في ما وبين‏.‏

هذا ما لخّصناه من تذكرة أبي حيان، وفيها فوائد تتعلق ببين دون ما، تركناها لعدم تعلّق غرضنا بها‏.‏

وقول الشارح‏:‏ ومثل قوله قفا نبك ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ، مثل‏:‏ مبتدأ مضاف، وقوله‏:‏ الفاء فيه بمعنى إلى هذه الجملة خبر المبتدأ، ويروى في بعض النسخ‏:‏ ومثله قوله، بالضمير على أنه مبتدأ وخبر، وهذه رواية فاسدة‏.‏

وقوله‏:‏ البيتان مبتدأ محذوف إلخ بر، أي مقروءان، والمعهود في مثله البيتين بالنصب، بتقدير‏:‏ اقرا، والجملة فيهما اعتراض‏.‏ وإنما لم يكتبهما لشهرتهما‏.‏

وهذا هو الجواب الأول‏.‏

وأما الجواب الثاني فهو قوله‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ قفا نبك بين منازل الدخول، يريد أنّ المتعدد الذي تضاف إليه بين محذوف دلّ عليه ما قبله، وقدّر في المواضع الأربع، لأن المعطوف شرطه غالباً أن يحلّ موضع المعطوف عليه‏.‏

وقدّره بعضهم بين مواضع الدخول، فتكون بين مضافة إلى متعدد محذوف‏.‏ وأجاب بعضهم بأنّ كلاً من الدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة موضع وسيع يشتمل على منازل ومواضع، فأضيف بين إليها لاشتماله على متعدد تقديراً، فلا حذف، وعليهما تكون الفاء عاطفة، وتفيد ترتيب البكاء بين منازل هذه المواضع‏.‏

ولم يقدّر الشارح هنا مفعولاً لنبك فيحتمل أنه جعل المفعول بين، ويحتمل أنّ نبك لازم، أي‏:‏ نحدث البكاء بين منازل هذه المواضع، فتكون بين ظرفاً للبكاء‏.‏ وهذا أولى، لأنّ المبكيّ من أجله تقدّم‏.‏

وهذا الجواب هو الجيّد، والجواب الأول غير جيد كما بيّنّاه‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ وكذا في غير هذا الموضع أشار به إلى ما تقدم من قولهم‏:‏ مطرنا ما بين زبالة فالثعلبية، فإن التقدير ما بين أماكن زبالة فأماكن الثعلبية‏.‏

ومن قولهم‏:‏ هي أحسن الناس ما بين قرن إلى قدم، فإنّك تقدّر ما بين أجزاء قرن، وما بين قرن فقدم، أي‏:‏ ما بين أجزاء قرن فأجزاء قدم، وما قرناً فقدماً‏:‏ ما بين أجزاء قرن فأجزاء قدم‏.‏

وكذا تقدّر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلاً ما بعوضة فما فوقها‏}‏ على قول الفراء‏:‏ ما بين أمثال بعوضة فأمثال فوقها‏.‏ وكذا يقدّر في قولهم‏:‏ الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك‏:‏ ما بين أوقات إهلالك‏.‏

وسكت ابن هشام عن الآية وعن قولهم‏:‏ ما قرناً إلى قدم، لوضوح التقدير‏.‏

وقال الدماميني‏:‏ لم يتعرض إلى الاعتذار عن بعوضة، وقرن على هذا القول فتأمّله‏.‏

وقد تأمّله بعضهم، فقال‏:‏ وغاية ما يظهر أن تكون إلى التي الفاء بمعناها للمعيّة على ما يقول الكوفيون، ومعنى‏:‏ ما بين قرن مع قدم، وما بين بعوضة مع ما فوقها‏:‏ ما بينهما‏.‏

وأما إن بقيت إلى على معناها فلا يظهر لصحة إضافة بين إلى قرن، وبعوضة، وجه، إذ لايمكن اعتبار تعدّد المضاف إليه، ولا أن يقدّر معه متعدد‏.‏

هذا كلامه، وهو غنيّ عن الردّ لظهور خلله‏.‏

هذا وقد أورد سيبويه المصراع الأول في باب وجوه القوافي في الإنشاد من أواخر كتابه، قال‏:‏ أما إذا ترنّموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو، ما ينوّن، وما لا ينوّن، لأنهم أرادوا مدّ الصوت، وذلك كقول امرىء القيس‏:‏

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي البيت

إلى آخر ما ذكره‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه وصل اللام في حال الكسر بالياء للترنّم، وهو مد الصوت‏.‏

وقوله‏:‏ قفا نبك فيه أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ لأكثر أهل اللغة أنه خطاب لرفيق واحد، قالوا‏:‏ لأن العرب تخاطب الواحد بخطاب الاثنين، قال الله تعالى مخاطباً لمالك‏:‏ ألقيا في جهنّم ، وقال الشاعر‏:‏ الطريل

فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر *** وإن تدعاني أحم عرضاً ممنّعا

وقال آخر‏:‏ الوافر

وقلت لصاحبي لاتحبسان *** بنزع أصوله واجدزّ شيحا

وحكي عن الحجاج أنه قال‏:‏ يا حرسي اضربا عنقه‏.‏ ولعلة فيه أن أقل أعوان الرجل في إبله وماله اثنان، وأقل الرفقة ثلاثة، فجرى كلام الرجل على ما قد ألف من خطابه لصاحبيه‏.‏ قالوا‏:‏ والدليل على أن امرأ القيس خاطب واحداً، قوله في هذه القصيدة‏:‏ الطويل

أصاح ترى برقاً أريك وميضه البيت

وقال ابن النحاس‏:‏ هذا شيء ينكره حذاق البصريين، لأنه إذا خوطب الواحد مخاطبة الاثنين وقع الإشكال‏.‏ وفيه نظر، فإن القرينة تدفع اللبس‏.‏

ثانيها‏:‏ للمبرد، قال‏:‏ التثنية لتأكيد الفعل، والأصل‏:‏ قف قف، بالتكرير للتأكيد، فلما كان الفعل لا يثني ثني ضميره‏.‏ وكذا ألقيا، واضربا، وتزجراني، وتدعاني، وتحبسانا‏.‏

ثالثها‏:‏ للزجاج أنه مثنى حقيقة خطاباً لصاحبيه‏.‏ وكذا ألقيا خطاب للملكين‏.‏ ويرد عليه ما عداهما، فإنه لا يتصور فيه ما زعمه‏.‏

رابعها‏:‏ أن أصله قفن بنون التوكيد إلخ فيفة، فأبدل النون ألفاً إجراء للوصل مجرى الوقف‏.‏ ونبك مجزوم في جواب الشرط‏.‏ وبه استشهد المرادي في شرح الألفية‏.‏

والسقط مثلث الأول‏:‏ ما تساقط من الرمل‏.‏ واللوى كإلى‏:‏ ما النوى من الرمل‏.‏ وسقط اللوى‏:‏ حيث يسترق الرمل فيخرج منه إلى الجدد‏.‏ وإنما وصف المنزل به، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا في صلابة من الأرض، لتكون أثبت لأوتاد الأبنية والخيام، وأمكن لحفر النؤي، وإنما يكون ذلك حيث ينقطع الرمل ويرق‏.‏

قال التبريزي في شرح المعلقات‏:‏ الباء من بسقط يجوز أن تتعلق بقفا، وبنبك، وبمنزل‏.‏ وقال الزوزني‏:‏ هي صفة لمنزل ولحبيب، ومتعلق بنبك‏.‏ فتأملها مع ما سبق‏.‏

والدخول، بفتح الدال وضم إلخ اء المعجمة، قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم‏:‏ هو موضع اختلف في تحديده، فقال محمد بن حبيب‏:‏ الدخول وحومل في بلاد أبي بكر بن كلاب وأنشد لكثير‏:‏ الكامل

أمن ال قتلة بالدخول رسوم *** وبحوملٍ طللٌ يلوح قديم

وقال أبو الحسن‏:‏ الدخول وحومل‏:‏ بلدان بالشام‏.‏ وأنشد‏:‏ قفا نبك البيتين‏.‏ وقال أبو الفرج‏:‏ هذه كلها مواضع ما بين أمرة إلى أسود العين، إلا أن أبا عبيدة، يقول‏:‏ إن المقراة ليس موضعاً، وإنما يريد الحوض الذي يجتمع فيه الماء‏.‏

وقال في أمرة‏:‏ بفتح الهمزة والميم والراء المهملة‏:‏ هي بلد كريم سهل في حمى ضرية من ناحية البصرة، وبينه وبين الستار الذي هو جبل من حمى ضرية خمسة أميال‏.‏ وأسود العين‏:‏ جبل على طريق الحاج البصري للمصعد، بينه وبين حمى ضرية سبعة وعشرون ميلاً، فيكون ما بين أمرة وأسود اثنين وعشرين ميلاً‏.‏

وقال في حومل‏:‏ هو اسم رملةٍ تركب القف، وهي بأطراف الشقيق وناحية الحزن، لبني يربوع وبني أسد‏.‏

وقال في توضح‏:‏ بضم أوله وكسر الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة‏:‏ موضع ما بين رمل السبخة وأود‏.‏ وقال الحربي‏:‏ توضح من حمى ضرية‏.‏

وقال في أود‏:‏ هو بضم الهمزة وبالدال المهملة‏:‏ موضع ببلاد مازن‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ أود لبني يربوع بالحزن‏.‏ وقيل‏:‏ أود والمقراة‏:‏ حدا اليمامة‏.‏ وفي شعر جرير أود لبني يربوع‏.‏

وضبط المقراة، هي بكسر الميم وإسكان القاف‏.‏

وقال التبريزي‏:‏ هذه المواضع التي ذكرها ما بين أمرة إلى أسود العين، وهو جبل، وهي منازل بني كلاب‏.‏ والمقراة في غير هذا الموضع‏:‏ الغدير الذي يجتمع فيه الماء، من قولهم‏:‏ قريت الماء في الحوض، إذا جمعته‏.‏

وزبالة بضم الزاي المجمعة بعدها باء موحدة، قال البكري‏:‏ بلد، ويدلك أنها قريب من زرود قول الشماخ يصف ناقته‏:‏ الطويل

وراحت رواحاً من زرود فنازعت *** زبالة جلباباً من الليل أخضرا

قال محمد بن سهل‏:‏ زبالة من أعمال المدينه، سميت بضبطها الماء وأخذها منه كثيراً، من قولهم‏:‏ إن فلاناً لشديد الزبل للقرب‏.‏

وقال ابن الكلبي عن أبيه‏:‏ سمّيت بزبالة بنت مسعود من العماليق، نزلت موضعها فسمّيت بها‏.‏

وقال أيضاً في الثعلبية‏:‏ بفتح الثاء المثلثة وسكون العين المهملة، هي بئر منسوبة إلى ثعلبة بن مالك بن دودان بن أسد، هو أول من احتفرها، وهي من أعمال المدينة، وهي ماء لبني أسد‏.‏ وزرود‏:‏ حبل رمل‏.‏

وقوله‏:‏ لم يعف رسمها هو موضع التعليل للبكاء، لأنه لو عفت هذه المواضع، وعفا رسمها لاستراح العاشق، وفي بقائها أشد حزن له، كقول ابن أحمر‏:‏ الوافر

ألاليت المنازل قد بلين *** فلا يرمين عن شزنٍ حزينا

أي‏:‏ فلا يرمين عن تحرّف‏.‏

يقال‏:‏ شزن فلان، ثم رمى، أي‏:‏ تحرّف في أحد شقّيه، وذلك أشدّ لرميه، أي‏:‏ ليتها بليت حتى لاترمي قلوبنا بالأحزان والأوجاع‏.‏

وعفا الشيء يعفو عفواً وعفوّاً وعفاء‏:‏ درس وانمحى، وعفاه غيره‏:‏ درسه‏.‏ والرسم‏:‏ ما لصق بالأرض من آثار الديار، مثل البعر والرّماد‏.‏

وقوله‏:‏ لم نسجتها تعليل لعدم العفاء والامّحاء‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ إن الرّيحين إذا اختلفتا على الرسم لم يعفواه، فلو دامت عليه واحدة لعفته، لأن الريح الواحدة تسفي على الرسم فيدرس، وإذا اعتورته ريحان، فسفت عليه إحداهما فغطّته، ثم هبّت إلخ رى، كشفت عن الرسم ما سفت إلخ رى، فيكون نسج الرّيحين اختلافهما بالتّراب، فواحدة تغطّي، والأخرى تكشف‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لم يعف رسمها، للريح وحدها، إنما عفا للريح والمطر، وترادف السنين‏.‏

وقيل‏:‏ معناه لم يعف رسم حبّها من قلبي، وإن نسجتها الرّيحان فعفتها مع الأمطار والسنين‏.‏ والمعنى الجيد هو الأول‏.‏ وفاعل نسجت ضمير ما، وها ضمير المواضع الأربعة‏.‏ ومن بيان لما، فتكون ما عبارة عن ريح الجنوب والشمال، وهما ريحان متقابلان‏.‏

وهذان البيتان أول معلقة امرىء القيس، وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب‏.‏ وتقدم أيضاً شرح غالب هذه القصيدة في مواضع متعددة مع بيان سبب نظمها‏.‏

ومصراع البيت الأول مدح بحسن الابتداء، وعجزه غير ملائم له‏.‏ والممدوح مطلع قصيدة للنابغة الذبياني‏:‏ الطويل

كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب

وتقدم بيان حسنه في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائة‏.‏

قال ابن أبي الإصبع في تحرير التحبير‏:‏ لعمري لقد أحسن ابن المعتز في اختياره بيت النابغة لحسن الابتداء، فإني أظنّه نظّر بين هذا الابتداء، وبين ابتداء امرىء القيس، فرأى ابتداء امرىء القيس على تقدّمه، وكثرة معاني ابتدائه، متفاوت القسمين جداً، لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ، وسهولة السّبك، وكثرة المعاني بالنسبة إلى العجز، وألفاظ العجز غريبة بالنسبة إلى ألفاظ الصدر، بخلاف بيت النابغة، فإنه لا تفاوت بين قسميه‏.‏

فثبت أنّ بيت امرىء القيس، وإن كان أكثر معان من بيت النابغة فبيت النابغة أفضل من جهة ملايمة ألفاظه، ومساواة قسميه‏.‏

وإنما عظّم ابتداء معلقة امرىء القيس في النفوس الاقتصار على سماع صدر البيت، فإنه يشغل الفكر بحسنه عن النظر في ملايمة عجزه، وعدم ملايمته، وهو الذي قيل عند سماعه للمنشد‏:‏ حسبك فإن قائل هذا الكلام أشعر الناس، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت، ولم يستنشد العجز شغلاً بحسن الصدر عنه‏.‏

وإذا تأمل الناظر في النقد البيت بكماله، ظهر له تفاوت القسمين‏.‏ انتهى‏.‏

ولعمري لقد أحسن الإمام الباقلاّني في كتاب إعجاز القرآن بإطالة لسانه بتزيف هذا المطلع حيث قال‏:‏ الذين يتعصبون لامرىء القيس، ويدّعون محاسن الشعر يقولون‏:‏ هذا من البديع، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجّع واستوجع، كلّه في بيت، ونحو ذلك‏.‏

وإنما بيّنّا هذا لئلاّ يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن إن كانت، ولاغفلتنا عن مواضع الصناعة إن وجدت‏.‏

تأمّل، أرشدك الله، تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعراً، ولاتقدّم به صانعاً‏.‏ وفي لفظه ومعناه خلل، فأوّل ذلك أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب، وذكراه لايقتضي بكاء إلخ ليّ، وإنما يصحّ طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه، ويرقّ لصديقه في شدّة برحائه‏.‏

فأما أن يبكي على حبيب صديقه، وعشيق رفيقه، فأمر محال‏.‏ فإن كان المطلوب وقوفه وبكاءه أيضاً عاشقاً، صحّ الكلام، وفسد المعنى، لأنه من السّخف أن لايغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه، والتواجد معه فيه‏.‏

ثم في البيتين ما لا يفيد، من ذكر هذه المواضع، وتسمية هذه الأماكن من الدّخول وحومل، وتوضح والمقراة، وسقط اللّوى، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا، وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضرباً من العيّ‏.‏

ثم إن قوله‏:‏ لم يعف رسمها ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا‏.‏

وهذا بأن يكون من مساويه أولى، لأنه إن كان صادق الودّ فلا يزيده عفاء الرسوم إلاّ جدّة عهد، وشدّة وجد‏.‏ وإنما فزع الأصمعي إلى إفادة هذه الفائدة خشية أن يعاب عليه، فيقال‏:‏ أي فائدة لأن يعرّفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه وأيّ معنًى لهذا الحشو‏؟‏ فذكر ما يمكن أن يذكر، ولكن لم يخلّصه بانتصاره، من إلخ لل‏.‏

ثم في هذه الكلمة خلل آخر، لأنه عقّب البيت بأن قال‏:‏ الطويل

فهل عند رسمٍ دارسٍ من معوّل

فذكر أبو عبيدة أنه رجع فأكذب نفسه، كما قال زهير‏:‏ البسيط

قف بالديار التي لم يعفها القدم *** نعم وغيّرها الأرواح والدّيم

وقال غيره‏:‏ أراد بالبيت الأول، أنه لم ينطمس أثره كلّه، وبالثاني أنه ذهب بعضه، حتى لا يتناقض الكلامان‏.‏

وليس في هذا انتصارا، لأن معنى عفا‏:‏ درس‏.‏

واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صحّ، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك على ما قاله زهير، فهو إلى إلخ لل أقرب‏.‏

وقوله‏:‏ لما نسجتها كان ينبغي أن يقول‏:‏ لما نسجها، ولكنه تعسّف فجعل ما في تأويل تأنيث، لأنها في معنى الريح، والأولى التذكير دون التأنيث، وضرورة الشعر قد دلّته على هذا التعسّف‏.‏

وقوله‏:‏ لم يعف رسمها كان الأولى أن يقول‏:‏ لم يعف رسمه، لأنه ذكر المنزل‏.‏ فإن كان ردّ ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها، فذلك خلل، لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه، وبأنه لم يعف دون ما جاوره‏.‏

وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنّث فذلك أيضاً خلل‏.‏ ولو سلم من هذا كله، ومما نكره ذكره كراهية التطويل، لم نشكّ في أنّ شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين، بل يزيد عليهما ويفضلهما‏.‏

انتهى ما أورده الباقلاّني، ولا يخفى ما في بعضه من التعسّف‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثامن والثمانون بعد الثمانمائة

الطويل

أيا دار سلمى بالحروريّة اسلمي *** إلى جانب الصّمّان فالمتثلّم

أقامت بين البردين ثمّ تذكّرت *** منازلها بين الدّخول فجرثم

ومسكنها بين الفرات إلى اللّوى *** إلى شعبٍ ترعى بهنّ فعيهم

على أنه يستعمل في تحديد الأماكن إلى محذوفاً منها العاطف، كما في البيت إلخ ير؛ فإنّ واو العطف محذوفة من إلى الثانية على خلاف القياس‏.‏

وظاهر كلامه أن الواو لا تستعمل مع إلى في التحديد المذكور، ولم يقل به أحد، وإن لم يكن هذا الظاهر مراده، فكان ينبغي له أن يقول‏:‏ يجوز بدل يستعمل، على أنّ ذكر تحديد الأماكن لا فائدة فيه، لأن مثله من قبيل حذف الواو العاطفة، وفيه قولان‏:‏ الجواز، سمع أبو زيد بن من العرب‏:‏ أكلت خبزاً، لحماً، تمراً، وهو مذهب الفارسيّ، ومن تبعه‏.‏

والمنع، وهو قول ابن جني في سر الصناعة ومن تبعه، وتأول ما ذكر على أنه من بدل البداء‏.‏

وكان ينبغي الاكتفاء بالبيت الثالث، لأنه موضع الشاهد، وحذف ما قبله‏.‏

وهذه الأبيات مطلع قصيدة للنابغة الجعدي الصحابي، كذا أوردها الأصبهاني في الأغاني، وزاد بعدها بيتاً، وهو‏:‏

ليالي تصطاد الرّجال بفاحمٍ *** وأبيض كالإغريض لم يتثلّم

ورواها ابن الشجري في أماليه كذا‏:‏

أيا دار سلمى بالحزون ألا اسلمي *** نحيّيك عن شحطٍ وإن لم تكلّمي

عفت بعد حيٍّ من سليمٍ وعامرٍ *** تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم

ومسكنها بين الفرات إلى اللّوى *** إلى شعبٍ ترعى بهنّ فعيهم

أقامت به البردين ثمّ تذكّرت *** منازلها بين الجواء فجرثم

ليالي تصطاد الرّجال بفاحمٍ *** وأبيض كالإغريض لم يتثلّم

ولنتكلم عن الرواية الأولى أولاً‏:‏ أيا‏:‏ حرف نداء، والدار‏:‏ المنزل، مؤنث سماعي‏.‏ وسلمى‏:‏ اسم امرأة، والباء من قوله بالحرويّة متعلقة بمحذوف حال من دار‏.‏ وأراد‏:‏ بالرّملة الحرورية، فإن حروراء بالمدّ ويقصر بالمهملات‏:‏ اسم رملة وعثة بناحية الدّهناء، بفتح الدال وسكون الهاء بعدها نون، يمدّ ويقصر‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ الدهناء‏:‏ رمال في طريق اليمامة إلى مكّة، وهي منازل بني تميم لا يعرف طولها، وأما عرضها فثلاث ليال، وهي على أربعة ليال من هجر، ويقال في المثل‏:‏ أوسع من الدهناء ‏.‏ كذا في معجم البكري‏.‏

والحروراء أيضاً‏:‏ قرية بظاهر الكوفة ينسب إليها الحرورية، وهي طائفة من إلخ وارج كان أوّل اجتماعهم بها، وتحكيمهم، حين خالفوا عليّاً رضي الله عنه، والنسبة إليه حروريٌّ‏.‏ كذا في العباب للصاغاني‏.‏ وهذه الكلمة لم يوردها البكري في معجمه‏.‏ وليس المراد قرية الكوفة، وإلاّ لقال‏:‏ بحروراء‏.‏

وقوله‏:‏ اسلمي دعاء لدار سلمى بالسلامة لها‏.‏

وقوله‏:‏ إلى جانب حال من دار أيضاً‏:‏ أي ممتدّة إلى جانب الصّمّان بفتح الصاد المهملة وتشديد الميم‏.‏

قال البكري في معجمه‏:‏ هو جبل ينقاد ثلاث ليال، وليس له ارتفاع سوى الصّمان لصلابته، وتخرج من البصرة على طريق المنكدر لمن أراد مكة، فتسير إلى كاظمة ثلاثاً، ثم إلى الدّوّ ثلاثاً، ثم إلى الصّمّان ثلاثاً، ثم إلى الدهناء ثلاثاً‏.‏

وقوله‏:‏ فالمتثلم معطوف على جانب، قال البكري‏:‏ هو بضم أوله وفتح ثانيه وفتح الثاء المثلثة وفتح اللام المشددة‏:‏ موضع بالعالية‏.‏ انهتى‏.‏

والعالية‏:‏ مافوق نجد إلى تهامة‏.‏ ولم يذكرها البكريّ في معجمه‏.‏

وقوله أقامت به البردين، بفتح الموحدة‏:‏ مثنّى برد، وأراد به طرفي الشتاء‏.‏ والبردان أيضاً‏:‏ الغداة والعشيّ‏.‏

ويجب أن يكون هذا البيت بعد قوله‏:‏ ومسكنها البيت، ليعود ضمير به إلى المسكن، كما في رواية ابن الشجري، وإلاّ كان ينبغي أن يقول‏:‏ أقامت بها البردين ليعود ضمير بها إلى الدار، فإنها مؤنثة كما ذكرنا‏.‏ وإن أرجعنا ضمير به إليها باعتبار المنزل فهو تعسّف‏.‏

وقوله‏:‏ وبين الدّخول فجرثم، أي‏:‏ بين مواضع الدخول فمواضع جرثم‏.‏ والدّخول تقدّم شرحه في الشاهد المتقدّم والرواية الصحيحة‏:‏ بين الجواء فجرثم‏.‏

قال البكري في معجمه‏:‏ جرثم بضم الجيم وسكون الراء وضم المثلثة، قال أبو سعيد‏:‏ هو ماء من مياه بني أسيد، ثم من بني فقعس، وجرثم تجاه الجواء، يدلّ على ذلك قول الجعدي‏.‏

أقامت بين البردين ثمّ تذكّرت *** منازلها بين الجواء فجرثم

وقال في الجواء‏:‏ هو بكسر الجيم بعدها واو، وبالمدّ‏:‏ جبل يلي رحرحان، بينه وبين الرّبذة ثمانية فراسخ‏.‏ وقد ذكرته في رسم الربذة، وذكر فيها‏:‏ هي بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة، هي التي جعلها عمر رضي الله عنه حمًى لإبل الصّدقة‏.‏

وأول أجبل حمى الرّبذة في غربيّها‏:‏ رحرحان، بينهما بريدان، ويلي رحرحان من غربيّه جبل يقال له‏:‏ الجواء، وهم على طريق الرّبذة إلى المدينة المنوّرة، بينه وبين الرّبذة أحد وعشرون ميلاً‏.‏

وليس بالجواء ماء، وأقرب المياه إليه ماء للسلطان يقال له‏:‏ العزّافة، بأبرق العزّاف بينه وبين الجواء ثلاثة أميال، انتهى‏.‏

ووجه العطف بالفاء في البيتين قد شرحه الشارح في البيت الآتي‏.‏

وقوله‏:‏ ومسكنها بين الفرات‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، بعد أن خاطب الدار بالنداء، ودعا لها، التفت إلى إلخ بار عن مسكن حبيبته، فقال‏:‏ ومسكنها بين الفرات، هو مبتدأ وخبر، والفرات‏:‏ نهر الكوفة، وأراد بين مواضع الفرات‏.‏

وفي الأغاني وبعض نسخ هذا الشرح‏:‏ العروب بدل الفرات، وهو تحريف منه‏.‏

وقوله‏:‏ إلى اللّوى متعلق بحال محذوفة، وصاحب الحال الضمير المستقرّ في بين، أي ممتدّاً إلى اللوى، بكسر اللام والقصر، وهو كما قال التّوّزيّ‏:‏ موضع معروف من أرض بني تميم‏.‏

وقوله‏:‏ إلى شعب معطوف بواو محذوفة، والشّعب‏:‏ جمع شعبة، وهو مسيل ماء من ارتفاع إلى بطن الوادي، أصغر من التّلعة، قاله ابن الشجري‏.‏

وترعى‏:‏ فعل مضارع، وفاعله مستتر ضمير سلمى، وهو من رعيت الماشية أرعاها رعياً، إذا أخذتها إلى المرعى، ويقال أيضاً‏:‏ رعت الماشية ترعى رعياً، فهي راعية، إذا سرحت بنفسها، يستعمل متعدياً ولازماً، كذا في المصباح‏.‏

وضمير بهنّ للشّعب، ومفعول ترعى محذوف، أي‏:‏ ترعى ماشيتها في الشّعب لكون نبته أوفر، فالباء في بهنّ ظرفية متعلقة بترعى، وجملة ترعى‏:‏ صفة لشعب‏.‏

ورأيت في هامش بعض نسخ هذا الشرح‏:‏ ترعى بضم أوله وفتح العين‏:‏ اسم موضع، منقول من الفعل، ومثله توضح، انتهى‏.‏

وهو خطأ واضح، على أنه غير موجود هذا المكان في معجم البكري وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ فعيهم، أي‏:‏ فإلى عيهم، بفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الهاء، قال البكري‏:‏ هو جبل بالغور بين مكّة والعراق، وقد ذكرته في رسم بيشة‏.‏ وقال فيها‏:‏ هي بكسر الموحدة والشين المعجمة‏:‏ واد من أودية تهامة‏.‏

ولم يجر لعيهم فيها ذكراً البتّة، وأما رواية ابن الشجري فنتقول‏:‏ قوله‏:‏

أيا دار سلمى بالحزون ألا اسلمي

الحزون‏:‏ جمع حزن، بفتح الحاء المهملة وسكون الزاء المعجمة، وهو ما غلظ من الأرض، وهوخلاف السّهل، وكأنه أراد حزن بني يربوع، فجمعه بما حوله، وليس الحزون اسم موضع بعينه‏.‏

قال البكري‏:‏ حزن بني يربوع‏:‏ قفٌّ غليظ مسيرة ثلاث ليال، وقال السكري في أشعار اللصوص‏:‏ الحزن بلاد بني يربوع، وهي أطيب البادية مرعًى، ثم الصّمّان‏.‏

وقال حنيف الحناتم‏:‏ من قاظ الشّرف، وتربّع الحزن، وتشتّى الصّمّان، فقد أصاب المرعى، والشرف‏:‏ من بلاد بني نمير‏.‏

وألا‏:‏ حرف تنبيه، واسلمي‏:‏ فعل أمر مسند إلى ضمير الدار، دعا لها بالسلامة‏.‏

وقوله‏:‏

نحيّيك عن شحطٍ وإن لم تكلّمي

نحيّيك‏:‏ من التحية، قال صاحب المصباح‏:‏ حيّاه تحيّة أصله الدعاء بالحياة، ثم كثر حتى استعمل في مطلق الدعاء، ثم استعمله الشرع في دعاء مخصوص، وهو‏:‏ سلام عليك، انتهى‏.‏

والشّحط‏:‏ البعد، وفعله من باب منع‏.‏ وقوله‏:‏ وإن لم تكلّمي أصله تتكلمي بتاءين‏.‏

قال ابن الشجري‏:‏ خاطب الدار بقوله‏:‏ أيا دار سلمى، وبقوله‏:‏ اسلمي، وبما بعده‏:‏ ثم انصرف عن خطابها إلى إضمار الغيبة في قوله‏:‏ عفت‏.‏ انتهى‏.‏ ولم يزد على هذا شيئاً‏.‏

وقوله‏:‏ عفت‏:‏ بمعنى درست وذهب آثارها، وقال ابن الشجري‏:‏ وسليم وعامر اللذان ذكرهما‏:‏ سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وعامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة المذكور‏.‏

وأراد بمنشم امرأة من خزاعة يقال لها‏:‏ منشم بنت الوجيه، كانت تبيع العطر في الجاهلية، فلما وقعت الحرب بين جرهم وخزاعة، كانت إذا حضر القتال تجيء بالطّيب مدقوقاً، فتطيّب به فتيان خزاعة، وكان من مسّ من ذلك الطّيب شيئاً لم يرجع من يومه إلاّ جريح وقتيلاً، فضربت العرب المثل بعطرها في الشؤم‏.‏ انتهى‏.‏

وقد استقصينا الكلام في منشم في شرح أبيات من معلقة زهير من باب الاشتغال‏.‏

وقوله‏:‏ أفاءت به قد تقدّم شرحة مع ما قبله‏.‏ قال ابن الشجري‏:‏ أضمر المسكن بعد إضمار الشّعب‏.‏

وقوله‏:‏ ليالي تصطاد إلخ ، ظرف متعلق بأقامت

والفاحم‏:‏ الشعر الأسود كالفحم، وقوله‏:‏ وأبيض، أي‏:‏ بثغر واضح برّاق كالإغريض، وهو طلع النخل، شبّه أسنانها به‏.‏

وتقدّمت ترجمة النابغة الجعدي في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة‏.‏

وفي قصيدة لجابر بن حنّي التّغلبيّ بيتان على نمط شعر الجعدي، في خطاب الدار، وهما‏:‏ الطويل

فيا دار سلمى بالصّريمة فاللّوى *** إلى مدفع القيقاء فالمتثلّم

أقامت بها بالصيف ثمّ تذكّرت *** مصايرها بين الجواء فعيهم

وهي مذكورة في المفضليات‏.‏

قال شارحها ابن الأنباري‏:‏ القيقاء‏:‏ جمع قيقاءة، وهو ما غلظ من الأرض في ارتفاع، ومصايرها‏:‏ مواضعها التي تصير إليها في الشتاء، والجواء وعيهم‏:‏ موضعان‏.‏

وأنشد بعده‏:‏